فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قرأ الجمهور بكسر الشين، وقرأ أبو جعفر بفتحها.
قال الجوهري: والشق المشقة، ومنه قوله: {لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الأنفس} وحكى أبو عبيدة بفتح الشين، وهما بمعنى، ويجوز أن يكون المفتوح مصدرًا من شققت عليه أشق شقًا.
والمكسور بمعنى النصف.
يقال: أخذت شق الشاة، وشقة الشاة، ويكون المعنى على هذا في الآية: لم تكونوا بالغيه إلاّ بذهاب نصف الأنفس من التعب، وقد امتنّ الله سبحانه على عباده بخلق الأنعام على العموم، ثم خصّ الإبل بالذكر لما فيها من نعمة حمل الأثقال دون البقر والغنم، والاستثناء من أعمّ العام، أي: لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلاّ بشقّ الأنفس.
{والخيل والبغال والحمير} بالنصب عطفًا على الأنعام، أي: وخلق لكم هذه الثلاثة الأصناف.
وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع فيها كلها.
وسميت الخيل خيلًا لاختيالها في مشيها، وواحد الخيل خائل.
كضائن واحد الضأن.
وقيل: لا واحد له.
ثم علل سبحانه خلق هذه الثلاثة الأنواع بقوله: {لِتَرْكَبُوهَا} وهذه العلة هي باعتبار معظم منافعها، لأن الانتفاع بها في غير الركوب معلوم كالتحميل عليها وعطف {زِينَةُ} على محل {لتركبوها} لأنه في محل نصب على أنه علة لخلقها.
ولم يقل: لتتزينوا بها، حتى يطابق {لتركبوها} لأن الركوب فعل المخاطبين، والزينة: فعل الزائن وهو الخالق.
والتحقيق فيه: أن الركوب هو المعتبر في المقصود، بخلاف الزينة، فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية، لأنه يورث العجب، فكأنه سبحانه قال: خلقها لتركبوها، فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة.
وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر، ولكنه غير مقصود بالذات.
وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل، قائلين بأن التعليل بالركوب يدلّ على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها.
قالوا: ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر، وإخراجها عن الأنعام، فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل.
قالوا: ولو كان أكل الخيل جائزًا لكان ذكره، والامتنان به أولى من ذكر الركوب، لأنه أعظم فائدة منه، وقد ذهب إلى هذا مالك، وأبو حنيفة، وأصحابهما، والأوزاعي، ومجاهد وأبو عبيدة وغيرهم.
وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدّثين وغيرهم إلى حلّ لحوم الخيل.
ولا حجة لأهل القول الأوّل في التعليل بقوله: {لِتَرْكَبُوهَا} لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره، ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر، ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب.
وأيضًا لو كانت هذه الآية تدلّ على تحريم الخيل، لدلت على تحريم الحمر الأهلية، وحينئذٍ لا يكون ثم حاجة لتحديد التحريم لها عام خيبر، وقد قدّمنا أن هذه السورة مكية.
والحاصل: أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حلّ أكل لحوم الخيل.
فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكًا للقائلين بالتحريم، لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال، ودافعة لهذا الاستدلال.
وقد أوضحنا هذه المسألة في مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
{وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي: يخلق ما لا يحيط علمكم به من المخلوقات غير ما قد عدّده ها هنا.
وقيل: المراد: من أنواع الحشرات والهوامّ في أسافل الأرض، وفي البحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به.
وقيل: هو ما أعدّ الله لعباده في الجنة وفي النار مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولا خطر على قلب بشر.
وقيل: هو خلق السوس في النبات، والدود في الفواكه؛ وقيل: عين تحت العرش؛ وقيل نهر من النور.
وقيل: أرض بيضاء، ولا وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من هذه الأنواع، بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد، فيشمل كل شيء لا يحيط علمهم به، والتعبير هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة، لأنه سبحانه قد خلق ما لا يعلم به العباد.
{وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل} القصد: مصدر بمعنى الفاعل، فالمعنى: وعلى الله قاصد السبيل، أي: هداية قاصد الطريق المستقيم بموجب وعده المحتوم وتفضله الواسع؛ وقيل: هو على حذف مضاف، والتقدير: وعلى الله بيان قصد السبيل، والسبيل: الإسلام، وبيانه بإرسال الرسل وإقامة الحجج والبراهين.
والقصد في السبيل هو كونه موصلًا إلى المطلوب، فالمعنى: وعلى الله بيان الطريق الموصل إلى المطلوب {وَمِنْهَا جَائِرٌ} الضمير في {منها} راجع إلى السبيل بمعنى: الطريق، لأنها تذكر وتؤنث.
وقيل: راجع إليها بتقدير مضاف أي: ومن جنس السبيل جائر مائل عن الحق عادل عنه، فلا يهتدي به، ومنه قول امرئ القيس:
ومن الطريقة جائر وهدى ** قصد السبيل ومنه ذو دخل

وقيل: إن الطريق كناية عن صاحبها، والمعنى: ومنهم جائر عن سبيل الحق: أي عادل عنه، فلا يهتدي إليه، قيل: وهم أهل الأهواء المختلفة، وقيل: أهل الملل الكفرية، وفي مصحف عبد الله: {ومنكم جائر}، وكذا قرأ عليّ، {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أجمعين} أي: ولو شاء أن يهديكم جميعًا إلى الطريق الصحيح، والمنهج الحق لفعل ذلك، ولكنه لم يشأ، بل اقتضت مشيئته سبحانه إراءة الطريق، والدلالة عليها {وَشَفَتَيْنِ وهديناه النجدين} [البلد: 10].
وأما الإيصال إليها بالفعل، فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر، ولا من يستحق النار من المسلمين، وقد اقتضت المشيئة الربانية أنه يكون البعض مؤمنًا، والبعض كافرًا كما نطق بذلك القرآن في غير موضع.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، قال: لما نزل {أتى أَمْرُ الله} ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} فسكنوا.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال: لما نزلت {أتى أَمْرُ الله} قاموا، فنزلت {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}.
وأخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس {أتى أَمْرُ الله} قال: خروج محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج قال: لما نزلت هذه الآية {أتى أَمْرُ الله} قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أن أمر الله أتى، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نراه نزل شيء، فنزلت {اقترب لِلنَّاسِ حسابهم} [الأنبياء: 1]. فقالوا: إن هذا يزعم مثلها أيضًا، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نراه نزل شيء، فنزلت {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8] الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {أتى أَمْرُ الله} قال: الأحكام والحدود والفرائض.
وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله: {يُنَزّلُ الملائكة بالروح} قال: بالوحي.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي عنه قال: الروح أمر من أمر الله، وخلق من خلق الله، وصورهم على صورة بني آدم.
وما ينزل من السماء ملك إلاّ ومعه واحد من الروح.
ثم تلا {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفًّا} [النبأ: 38].
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن {يُنَزّلُ الملائكة بالروح} قال: القرآن.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْء} قال: الثياب {ومنافع} قال: ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضًا، قال: نسل كل دابة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضًا في قوله: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ} يعني: مكة {لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الأنفس} قال: لو تكلفتموه، لم تطيقوه إلاّ بجهد شديد.
وقد ورد في حلّ أكل لحوم الخيل أحاديث منها في الصحيحين وغيرهما، من حديث أسماء، قالت: نحرنا فرسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه.
وأخرج أبو عبيد، وابن أبي شيبة، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن جابر قال: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية.
وأخرج أبو داود نحوه من حديثه أيضًا.
وهما على شرط مسلم.
وثبت أيضًا في الصحيحين من حديث جابر، قال: «نهى رسول الله عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في الخيل» وأما ما أخرجه أبو عبيد، وأبو داود، والنسائي من حديث خالد بن الوليد قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير»، ففي إسناده صالح بن يحيى بن أبي المقدام، وفيه مقال.
ولو فرضنا أن الحديث صحيح، لم يقو على معارضة أحاديث الحلّ، على أنه يكون أن هذا الحديث المصرّح بالتحريم متقدّم على يوم خيبر، فيكون منسوخًا.
وأخرج الخطيب وابن عساكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قال: البراذين.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما خلق الله أرضًا من لؤلؤة بيضاء» ثم ساق من أوصافها ما يدلّ على أن الحديث موضوع، ثم قال في آخره: فذلك قوله: {ويخلق ما لا تعلمون}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل} يقول: على الله أن يبين الهدى والضلالة.
{وَمِنْهَا جَائِرٌ} قال: السبل المتفرّقة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل} قال: على الله بيان حلاله، وحرامه، وطاعته، ومعصيته {وَمِنْهَا جَائِرٌ} قال: من السبل ناكب عن الحق.
قال: وفي قراءة ابن مسعود {ومنكم جائر}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف عن عليّ أنه كان يقرأ هذه الآية {ومنكم جائر}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [النحل: 11-13] يسأل عن توحيد آية في الآية الأولى والثالثة وجمعها في الآية الثانية المتوسطة؟ وعن تعقيب الأولى بقوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وتعقيب الثانية بقوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} والثالثة بقوله: {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.
والجواب عن السؤال الأول: أن الإشارة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} في الآية الأولى إلى المنزل من السماء في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10]، ثم قال: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل: 11] أي ينبت لكم بالماء المنزل من السماء-مع وحدته في الصفة- ضروب الأقوات والفواكه وأنواع الثمرات فقيل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} بالإفراد، لأن الإشارة إلى الماء أو إلى إنبات أنواع الثمرات المختلفات في الطعن والألوان مع وحدة المادة من الماء وهو واحد، وكذلك الآية الثالثة الإشارة فيها إلأى الجنس الواحد الواقع عليه لفظ {ما} من قوله: {وَمَا ذَرَأَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُه} فأفرد هذا الضمير أيضًا لرجوعه إلى ما الواقعة على جنس واحد مبثوث في الأرض يشتكل على أنواع مختلفة في الطعوم والألوان، فأفرد لفظ الآية لما أفرد لفظ الضمير لوقوع ذلك على الجنس الذي عبرت عنه ما، وهو جنس واحد، فاقتضى ذلك إفراد آية، وأما الآية المتوسطة فالإشارة فيها إلى خمسة أشياء مختلفة، أحيل عليها في الاعتبار، وسخرت لنا تسخيرًا به قوام معشنا وصح أحوالنا ومعرفة حسابنا، وهي الليل والنهار والشمس والقمروالنجوم، وكل واحد من هذه تتسع جهات النظر فيه والاعتبار بعجائبه، فالليل للسكون والراحة والنهار للاكتساب والتصرف والسياحة، والشمس للإضاءة والتسخين، والقمر للنورية والترطيب والتكوين، وبكلا النيرين معرفة الشهور والسنين، {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40]، والنجوم للاهتداء في ظلمات البراري والبحار، وجهات الاعتبار بهذه الخمس يفوت الإحصاء، فللإشارة إلأى هذه المتعددات جمع فقيل: {لآيات}.
والجواب الثاني، وهو وصف المعتبرين في الآية الأولى بالتفكير وفي الثانية بالعقل وفي الثالثة بالتذكير: أن إنبات الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومختلف الثمرات بالماء المنزل من السماء مع كونه واحدًا والمنبت مختلف الأنواع والطعوم والمنافع أمر يوصل إلى تعرفه وارتباطه باستعمال الفكر في ذلك وإن لم يطل، بشرط السلامة من الغفلة، فيحصل بمجرد الفكر على عظيم المعتبر، وأما تسخير الليل والنهار إلى ما ذكر معهما فلا يكتفي في معرفة ذلك والحصول على الاعتبار به بمجرد الفكر، فإن العلم بتسخير هذه مما يغمض ويخفى إلا على ذوي البصائر والفطن السليمة والعقول الراجحة، فلم يقنع التفكر هنا بل وصف المعتبر بها بما هو فوق الفكر، وتأصل ما تعقب به موضوع الاعتبار في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} [البقرة: 164] إلى قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] لما كان في الاعتبار بما انطوت عليه الآية غموض وخفاء قيل: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وأما الآية الثالثة وهي قوله: {وَمَا ذَرَأَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [النحل: 13] ببدأة الفكر السالم، فقصد التذكير كاف في حصول الاعتبار بذلك. فإذا تأملت ما ذكرناه ألفيت ذلك كله واردًا على أجل مناسبة، وعملت أن كل آية من هذه الثلاث لا يناسبها إلا ما أعقب به. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)}.
قومٌ هداهم السبيل، وعرَّفَهم الدليل، فصرفَ عن قلوبهم خواطر الشكِّ، وَعصَمَهم عن الجُحْدِ والشِّرْك، وأَطْلَعَ في قلوبهم شمسَ العرفان، وأفردهم بنور البيان، وآخرون أضلّهم وأغواهم، وعن شهود الحُجَجِ أعماهم، وفي سابقُ حكْمِه من غير سببٍ أَذَلَّهم وقمعهم، ولو شاء لعرَّفهم وهداهم.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)}.
أنزل المطر وجعل به سُقيا النبات، وأجرى العادة بأن يديمَ به الحياة، وينبت به الأشجار، ويخرج الثمار، ويجري الأنهار.
ثم قال: {إِنَّ في ذَلِكَ لأَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ثم قال بعده بآيات: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، ثم قال بعده: {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}، وعلى هذا الترتيب تحصل المعرفة؛ فأولًا التفكر ثم العلم ثم التذكر، أولًا يضع النظر موضعه فإذا لم يكن في نظره خَلَلٌ وجب له العلم لا محالة، ولا فرق بين العلم والعقل في الحقيقة، ثم بعده استدامة النظر وهو التذكر.
ويقال إنما قال: {لأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} على الجمع لأنه يحصل له كثير من العلوم حتى يصير عارفًا بربِّه آياتُ ودلائل، لأن دليل هذه المسألة خلاف دليل تلك المسألة، فبدليل واحد يعلم وَجْهَ النظر، وبأدلة كثيرة يصير عارفًا بربه. اهـ.